مدرسة الصمت والأصغاء
الصمت والأصغاء هي علاقة بين المؤمن والخالق كالصلاة , لا وبل هي أمتداد لعمل الصلاة ، حيث في وقت الصلاة يبتعد المؤمن عن هموم هذه الدنيا ومصالحها لكي يزداد قرباَ من خالقه, فهموم العالم تُعكر تفكير الأنسان بالله وبالحياة الأبدية , والبعيدين عن الله كثيرون غارقون في مشاكل هذه الدنيا التي لا طائل منها . فطوبى للعيون التي تتوجه نحو الرب وتبصره وطوبى للآذان التي تسمع صوته رغم الأنهماك في الأعمال الدنيوية ,اذاً الصلاة هي الوسيلة المثلى للتحدث الى الله فيفتح الأنسان قلبه وفكره ليصارح خالقه من أجل الأقتراب منه ولمعرفته والوصول اليه ومن ثم الأتحاد به بالشعور بيد الله القوية العاملة بذات المؤمن . المُصلي هو المتحدث الى الله , فمتى يستطيع الله أن يرد الى المتحدث اليه ؟ أولاَ وقبل كل شىء يجب أن نثق بالله بأنه يسمع صلواتنا وعلينا أن نسلم ذواتنا له بثقة كاملة ونقول له كما قالت أمنا مريم : (....فليكن لي بحسب قولك)" لو 28:1" . كل أنواع الصلوات تدل على الكلام مع الله أي نحن نتحدث وهو يصغي. فمتى نستلم الجواب اذاً ؟ متى نجلس أمام قدميه لكي نستمع الى كلامه كما فعلت مريم أخت مرثا ؟ للحصول على الرد, علينا أن ننتمي الى مدرسة الصمت والأصغاء لكي نصغي الى جواب الرب .
مدرسة الصمت والأصغاء هي صلاة من نوع آخر فيها نصغي الى صوت الخالق لكي نتعلم منه لأنه إلهنا ونورنا , فما علينا الا أن نقول له كما قال النبي صموئيل
تكلم يا رب وعبدك يصغي) " 1 صو 10:3" . يكون المُصلي في هذه اللحظات في حالة سكينة وصمت, هذا الصمت الذي قيل عنه بأنه صوت الله لمن يفهمه, فمن يريد التأمل بالله عليه أن يلتزم الصمت ويصغي . هكذا سيهجر العالم الخارجي لكي يدخل الى عالمه الداخلي حيث يجد فيه السكينه والهدوء والسلام هكذا سيجد نفسه وجهاَ لوجه أمام الله الذي هو نبع الحياة . قال باسكال عن الصمت:
( أن مصائب الأنسان ناجمة عن كونه لا يتجاسر على الأختلاء بالصمت في غرفته) . الرب يضع في النفس الصامتة السلام والرضا فيشعر الأنسان بالقوة والسعادة والطمأنينة لأنها مؤمنة بأنها في لقاء خاص مع الخالق فتبقى مشغولة به دون أن نعرف كيف ,أما العقل والمخيلة والشعور الداخلي لا تستطيع فصلها من فرحها وسعادتها وتعمل لكي لا ينطفي فيها نور الله وكما قال الرسول بطرس على جبل التجلي, بأن لا يغادر المكان وبصمت لأن الله كان المتحدث في التجلي.أن من يستطيع الأرتقاء الى هذه المرحلة والى هذه النعمة المعطاة من الله له لا يشعر في تلك اللحظات بأنه على الأرض , لأن محبة الله جعلت تلك النفس كأنها من سكنة السماء . الله يتحدث الينا في تلك اللحظات من خلال روحه القدوس العامل فينا وفي الكنيسة المقدسة فعلينا أن نسمع الى صوت الله الصادر عن طريق آبائنا الروحيين وهو يحثنا للأصغاء اليهم بقوله : ( أصغوا الى أقوالهم) وكما أمرنا الآب لكي نصغي الى صوت أبنه بقوله: ( هذا هو أبني الحبيب الذي عنه رضيت فله أسمعوا)"مت 5:17" . أما الأبن فيقول لنا
أن الذي يشرب من الماء الذي أعطيه أياه. لن يعطش أبداَ...) " يو 4: 3-14" و " يو 37:7" وهذا هو صوت الروح في الكنيسة الذي يقول لنا : (من سمع فليقل تعال أيها الرب يسوع. ومن كان عطشان فليأت . ومن كانت له الرغبة فليستحق ماء الحياة مجاناَ) " رؤ 17/22" .
سر نجاح المؤمن هو في اصغائه لصوت الرب وعليه أن يميز هذا الصوت في حياته اليومية ويجب أن يعرف ذلك الصوت بسرعة ويصغي اليه أنه صوت الراعي الصالح , وخرافه يعرفون صوته ويتبعوه . قد يكون ذلك الصوت منخفض وخفيف لكن المتدرب على سماعه يشعر به عن طريق ضمير أيمانه , أنه يميز كل صوت غريب يعارض مشيئة الله في حياته , أو يأتي بتفكير لا يناسب معتقداته الروحية , فيشعر بالخطر لأن صوت الرب يوقضه.
اذاَ صوت الصمت صلاة وفضيلة لمن يمارسها من أجل اللقاء مع الله وبمقدار حُبّهِ للصمت يبتعد عن هذا العالم ليقترب الى العالم الآخر فيزداد حكمة بقربه من الله الذي يريدنا أن نصغي اليه أكثر من الكلام اليه فيعود الى النفس المزيد من الفوائد فتبتعد تلك النفس من الوقوع في خطايا وتجارب , هكذا ستنال أحترام الناس ومحبتهم. واذا اراد المؤمن أن يتكلم فينبغي أن يكون له هدف صالح ونية طيبة بناءة فتحل حكمة الله عليه بدلاَ من الأندفاع والطياشة البشرية, لأنه منتفع من كلام الله الصادر اليه وهو في حالة الأعتكاف والأصغاء وفي هذه الأثناء يستطيع أن يقدم الى الله طلبات دون أن ينطق بكلمة وبأيمان راسخ فيستجاب له كما أستجاب يسوع لحاملوا المخلع "مر 5:2" . وكذلك لنازفة الدم التي لمست ثوبه دون أن تنطق بكلمة "مر 28:5" وكذلك دموع الخاطئة وطيبها " لو 7: 37-38".
الحياة الروحية تبدأ بمخافة الله , كما قال الكتاب المقدس
رأس الحكمة فخافة الله) " أم 10:9" حيث بسبب تلك المخافة ستُطبّق وصايا الله , لكنه عندما يمارس الحياة الروحية ويصبح قريب من الله لا وبل صديقاَ له فيمتلأ من محبة الله فلا يعود يهابه أيضاَ أن الله سيسكن فيه ويسلم ذاته له , هكذا سيشعر بالمتعة والأمان فيزول الخوف فتبرز المحبة والقوة فيطرح الخوف خارجاَ.هكذا أستطاع الآباء الرهبان القديسين أن يعيشوا لوحدهم في قلايات ومغاور وشقوق الأرض في الصحاري والجبال لا يهابون المخاطر لعشرتهم مع رب الحياة الذي أحبوه أكثر من العالم , فسلموا له ذواتهم وطبقوا قوله : (أترك كل شىء وأتبعني) لأن محبة هذا العالم حسب قول الرسول بولس عداوة لله.
على كل مؤمن أن يُدرّب ذاته على سماع صوت الرب والأصغاء الى ندائه , وأن لا يهمل ذلك الصوت المنخفض الذي يهمس في داخله. وما أعظم النتائج عندما نعمل بنصيحة الرب ونسير بأرشاداته لأنه النور الذي يضىء ظلمة قلوبنا وأفكارنا . وكلامه سراج لخطايانا أنه صوت الراعي الصالح وكما كتب الشاعر عن هذا الصوت قائلاَ:
صوت حبيبي أسمع حيث هداني أتبع
من أجلي مات بالصليب يا له من حب عجيب
محبة القديسين الفائقة لله لن تجبرهم للأبتعاد أو النفور من الناس , بل كانوا يسمحون للناس بزيارتهم وكانوا الزائرين يطلبون صلواتهم وشفاعاتهم . كذلك كان أولئك القديسين يتجولون في الكنائس والأديرة ويلتقون بالمحتاجين اليهم ، أو يؤسسون مدارس قرب الأديرة لتعليم التلاميذ وخدمتهم. الوحدة مع الرب والأبتعاد عن العالم أو الموت عنه ليس عملاً سلبياً أو أنانياً بل هو عمل أيجابي , الغاية منه للتقرب من الله والأتحاد به والأبتعاد عن مصادر التجارب. هذا هو الهدف من الوحدة فهناك قديسين مثل مار أنطونيوس الكبير ومار أثناسيوس الرسولي قضي كل منهما ثلاثين سنة في قلايته المغلقة لن يروا فيها وجه أنسان أختبروا فيها ثمار السكون والخلوة الكاملة مع الله والتحرر من العالم الباطل فأمتلأ ذهنهم من الله وحده, وفي مذاق السكون يحيا الأنسان في الصلوات. السكون سيعلم الأنسان كل شىء وهكذا تخرج صلاة الى الله من قلب المؤمن دون أن تتحرك الشفاه أو اللسان وبعد ذلك السكون تأتي فترة السماع لرد الرب في داخل الأنسان والتمتع به حيث الله سيعطي المصلي قوة وأنتصار وحكمة ومواهب .
أذاً ما على المصلي الا أن يعطي لله قلبه, انما يعطيه فراغه والله يملأه حتى يفيض وحتى يقول كفانا ( ملا 10:3) . هكذا عاشى القديسين مع الله والروح في أجسادهم أو في خارجها حيث تخطف لكي تصبح حرة طليقة مع الله , وقد أختبر قديسين كثيرين هذه الحالة فعاشوا في الروح تاركين الجسد والنفس لوحدها كما عاشها الرسول بولس فقال : ( في الجسد أم خارج الجسد ؟ لست أعلم , الله يعلم ) " 2كو 2:12" . وكذلك الرسول يوحنا الحبيب قال عن نفسه
..., فأخطفني الروح يوم الرب, فسمعت خلفي صوتاً كصوت البوق يقول: أكتب ما تراه.....) "رؤ 10:1" وهكذا عاش قديسين كثيرين وعيونهم مفتوحة صامتين صائغين الى الله وهو يكشف لهم أسراراً كثيرة وهم في حالة روحية, أنهم لم يهربوا من العالم, بل أرتفعوا على مستوى العالم فكان هذا سر عظمتهم وسر أعجاب الناس بهم والأعتراف بقدسيتهم. فمن كان له آذان للسمع, سيسمع ما يقوله الروح للكنائس .على الأنسان أن يضبط لسانه لأن الذي يتحدث كثيراً , يخطأ كثيراً والعكس هو الأفضل وكما يقول الكتاب في" أم 19:10"
كثير الكلام لا يخلو من معصية و أما الضابط شفتيه فعاقل) . أما الرسول يعقوب فقال في " 19:1" ( يجب على الأنسان أن يكون سريعاً الى الأستماع بطيئاً عن الكلام...) لهذا كان المرنم يطلب من الله أن يضع باباً حصيناً لشفتيه لكي يتكلم قلبه مع الله , وكما قال رجل روماني
سكّتْ لسانك لكي يتكلم قلبك مع الله) .
الأنجيل المقدس يعطي لنا أمثلة كثيرة عن مدرسة الصمت والأصغاء حيث لا ينطق المنتمي اليها كلمة واحدة لأنه سلم ذاته بكليتها الى الله والله يوعظ فيه وهو يسمع اليه فيقوده الى الكمال الروحي . هذه المدرسة بدأت في العهد الجديد منذ بدايته وأفضل مثال ومدرسة لنا هو القديس البتول مار يوسف خطيب مريم الذي لم ينطق ببنت شفة في الأنجيل المقدس بل كان صامتاً أمام أرادة الله وكان في صمته جواب لله , ورساثل الله له عن طريق الملاك كثيرة وكان جوابه للملاك الصمت أي الخضوع والرضى لما يقوله الله له , وهكذا خدم الرب والعذراء بسكوت دون أن يتفوه بكلمة واحدة وكما نرى أن الأنجيل لن يُدوّن لنا أي كلام له ولم يناقش الملاك عندما قال له في الحلم : ( لا تخف أن تأتي بأمرأتك مريم الى بيتك )" مت 8:1" ولم يعرض له شكّهِ بمريم الحامل , لم يرد على ملاك الرب كما ردّ زكريا الكاهن. وهكذا لم ينطق يوسف البار بكلمة عندما قال له الملاك خذ الصبي وأمه الى مصر . وكذلك بالنسبة الى أمر العودة الى أرض الوطن وأخيراً لم يتحدث الى يسوع ليعرف سبب بقاءه في الهيكل بل كانت المتحدثة مريم عندما قالت : ( يا بني لم صنعت بنا ذلك؟) لكن وحسب العادات والتقاليد الأجتماعية اليهودية ووجود يسوع في الهيكل بين العلماء الرجال كان على يوسف أن يتكلم كرجل مع الرجال أضافة الى كونه رب الأسرة . السبب اذن يعود الى أن يوسف قد أدرك سراً فكان يعمل به لخدمة أبن الله ومريم بالصمت وهكذا كانت حياته كالناسك الذي يعيش في القلاية بعيداً عن الأحداث , فما كان عليه الى الأصغاء والتنفيذ بكل أيمان. كما نجد في الأنجيل المقدس طالباً آخر أنتمى الى هذه المدرسة وهو لعازر, الصديق المحبوب للرب الذي أقامه من بين الأموات. كان لعازر أخ مريم ومرتا اللتان تحدثتا كثيراً مع يسوع فسجل لنا الأنجيل الكثير عنهما لكن لن يسجل عن لعازر أي كلام رغم العشرة الطويلة مع الرب الذي كان يحبه وبكى لأجله ( 35:11) . كما لم نسمع من لعازر حتى كلمة الشكر للرب وهو خارجاً من القبر بعد القيامة وبعد أن نهض من رباط الكفن .
علينا أن ندرك أهمية مدرس الصمت والأصغاء ونفهم رموزها ودلالاتها ونفهما لكي نستطيع أن نعيشها . هذه المدرسة تعلمنا الأصغاء الى صوت الله من خلال معلمينا ومرشديننا الروحانيين وعلى كل مؤمن أن يلجأ ويعيش بسكينة الصمت والأصغاء الى الله الذي هو معلمنا الأعظم فيعطي لنا الكثير , أكثر مما نقرأه أو نتحدث به , لأننا في حالة الصمت والأعتكاف نموت عن هذا العالم لكي نحيا في الرب الذي نعطي له ضعفنا ونأخذ منه القوة والنعمة والصبر وحياة روحية جديدة وبسخاء وكما يقول الرسول يوحنا
ليس بكيل يعطي الروح) " يو 24:3" . فالذي يريد الخير والراحة لنفسه فعليه أن يبحث عن الله وكما قال داود النبي الذي أكتشف هذه الحقيقة وعاشها : ( أما أنا فخير لي الألتصاق بالرب) " مز73" .
أخيراً نقول لربنا وإلهنا يسوع لك كل المجد والتسبيح والسجود والى صوتك نصغي لأنك راعينا الصالح فنبقى معك الى الأبد آمين .