السّلام هدف أساسي وهامّ لكلّ إنسان، فهو يعمل جاهداً للحصول عليه. يبحث عنه في أماكن كثيرة مستخدماً وسائل مختلفة ومتنوّعة لكي يشتريه ويمتلكه ويحيا به. يظنّ كثيرون أنّ السّلام يَكمُن في الغِنى فيَسعون لامتلاك الثّروات، وآخَرون يظنّون أنّ السّلام يَكمُن في الصّحّة فيسعون للحفاظ عليها بشتّى الوسائل، ومنهم يظنّون أنّهم يحصلون على السّلام في بلوغ مراكز مهنيّة أو اجتماعيّة أو سياسيّة أو علميّة عالية.
الكثيرون يفتّشون عن السّلام لكنّ القليلين هُم الذين يجدونه. لأنّهم (الكثيرين) يفتّشون في الأماكن الخطأ، فهُم يبحثون عن السّلام الخارجي الذي قد يحصلون عليه ولكنّه لن يصمد إلى الأبد، يختبرونه إلى حين ثم يفقدونه من جديد بالرّغم من امتلاكهم وسيطرتهم على أسبابه الموجِبة كما يرونها هُم. ولكن لماذا؟ لأنّ السّلام الذي ينشدونه وينالونه هو سلام آنِيّ ظرفِيّ لا يدوم، إذ سرعان ما يزول ويندثر أمام أيّة مصاعب أو تجارب أو هموم، لأنّه سلام أرضي مصنوع بأيدي بشريّة وبمواد زائلة، والمصنوع من الزّائل سيزول مثله. هل هذا يعني أنّ من يسعى لهذا السّلام هو على خطأ؟ طبعاً ليس على خطأ، ولكنّ الخطر يَكمُن في باطن هذا السّلام الآنِي والظّرفِي، حيث يجعل الإنسان يكتفي به ويكفّ عن البحث عن السّلام الحقيقي الأبدي، سلام الله.
المسيح الرّبّ هو سلامنا، وقد أظهره وأعلنه لنا بموته على الصّليب وبقيامته من الموت منتصراً مُصالِحاً العالم مع الله. مكتوب في رسالة أفسس: "وَلَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا ..." (أفسس 2: 13 و14).
إذاً نحن أمام نوعين من السّلام: سلام أرضي مادّي آنِيّ زائل، وسلام سماوي إلهي روحي أبدي صانعه المسيح. فعَن أيّ سلامٍ تبحث؟ وعلى أيّ سلامٍ تريد الحصول؟
المؤمن بالمسيح، يسعى أوّلاً للحصول على سلام الله الذي يُمكّنه من نوال السّلام الأرضي. حين يعيش المؤمن بالمسيح في سلام الله، فهو لَن يتأثّر كثيراً إن اهتز سلامه الأرضي نتيجة ظروف صعبة يمرّ فيها، لأنّ السّلام الذي يعيش فيه يجعله مُحصّناً ومنيعاً ضدّ تأثيرات تجارب كثيرة.
كيف يحصل الإنسان على السّلام مع الله وأين تكمُن أهميّة هذا السّلام ؟
للحصول على السّلام الحقيقي ثلاثة شروط:
1 - الإيمان بالمسيح: كتب بولس الرّسول بوَحي الله، يقول: "فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ" (رومية 5: 1). عندما يؤمن الإنسان بالرّبّ يسوع المسيح إيماناً قلبيّاً صادقاً ـ بمعنى أن يؤمن به من كلّ قلبه ربّاً وفاديا ومخلِّصاً ـ سيحصل على :
*ولادة جديدة (روحيّة): قال الرّبّ يسوع لنيقوديموس وهو من رؤساء اليهود: "... ﭐلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللَّهِ" (يوحنّا 3: 3). "اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ" (يوحنّا 3: 6). الولادة الجديدة في المسيح تغيِّر مسار المؤمن وتنقله من الظّلمة إلى النّور، فيصبح إنساناً مختلفاً في أفكاره وأقواله وأفعاله.
*تبرير من الخطيّة: مكتوب في الإنجيل المقدّس: "إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ" (رومية 8: 1).
هذه هي نعمة الإيمان الغنيّة أنّ المسيح برَّرَنا. يعني أبرَأَنا وطهَّرنا وغسَلنا من ذنوبنا وصرنا أبراراً في عينَي الله الآب، النّاظر إلينا من خلال نعمة المسيح الخلاصيّة (الفداء). وبالتّالي رفع عنّا عقاب الخطيّة الذي هو الموت الأبدي في بحيرة النّار والكبريت.
*خلاص أبدي بالنّعمة بالإيمان بالمسيح: لقد وعد الرّبّ يسوع بأنّ كلّ من يؤمن به ينال الحياة الأبديّة. وفي رسالة أفسس نقرأ: "لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ. لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ" (أفسس 2: 8 و9). خلاصنا مرهون بإيماننا بالمسيح مخلِّصاً وفادياً وربّاً، ولا يمكن لأعمالنا الصّالحة أن تخلِّصنا وتعفينا من دينونة الخطيّة، فإيماننا يُثمِر صلاحاً لنُمجِّد به الله وليس كي يكون مصدر خلاصنا الأبدي.
*حريّة حقيقيّة: مكتوب في الإنجيل المقدّس: "وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ" (يوحنّا 8: 32). ونقرأ أيضاً في الإنجيل المقدّس: "فَإِنْ حَرَّرَكُمْ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَاراً (يوحنّا 8: 36). الإيمان بالمسيح يُحرِّر الإنسان من سلطان الخطيّة وقيود الشّرّ، فلا يعود عبداً لها ما دام يسلك في نور المسيح ثابتاً في إيمانه. يوصي الله المؤمنين بالمسيح قائلاً على فم رسوله بولس: "فَاثْبُتُوا إِذاً فِي الْحُ
رِّيَّةِ الَّتِي قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضاً بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ" (غلاطية 5: 1).
2- الاعتراف والتّوبة الحقيقيّة: لا يمكن أن أحصل على السلام مع الله إن لم أُقِرّ لله بذنوبي، تائباً مصمِّماً وواعِداً بأن لا أعود إليها بإرادتي. والله يدعونا كي نُقِرّ بذنوبنا ونعترف بها كي يغفرها لنا. مكتوب: "إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ. إِنْ قُلْنَا إِنَّنَا لَمْ نُخْطِئْ نَجْعَلْهُ كَاذِباً، وَكَلِمَتُهُ لَيْسَتْ فِينَا" (1 يوحنّا 1: 9 و10).
3- الطّاعة الكاملة للرّبّ: طاعة الرّبّ تعبير أمين وصادق عن الإيمان بالمسيح الذي يؤدي للسلام مع الله. لا يمكن تصوُّر إيمان دون طاعة وصايا المسيح التي ليست ثقيلة أبداً. طاعته في العبادة والمحبّة والخدمة وفِعل الخير للنّاس والقدوة الحسنة والسُّمعة الطيّبة، حتى يتمجّد الله في حياة المؤمن. مكتوب: "... وَسَلاَمُ \للهِ \لَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْلٍ يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي \لْمَسِيحِ يَسُوعَ (فيلبي4: 7).
* نتائج السّلام مع الله:
1- امتياز البُنوّة: مكتوب: "وَأَمَّا كُلُّ الَّذِينَ قَبِلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ سُلْطَاناً أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللَّهِ أَيِ الْمُؤْمِنُونَ بِاسْمِهِ. اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُلٍ بَلْ مِنَ اللَّهِ" (يوحنّا 1: 12 و13). "مَا دَامَ لَكُمُ النُّورُ آمِنُوا بِالنُّورِ لِتَصِيرُوا أَبْنَاءَ النُّورِ" (يوحنّا 12: 36). امتياز البُنوّة هذا عظيم جدّاً وَهَبه الرّبّ يسوع لمؤمنيه، وهو يترك في حياتهم سلاماً حقيقيّاً حين يتأكدون من نوالهم هذه الهِبة الإلهيّة الثّمينة أن يُدعَوا أولاد الله وإخوة المسيح.
2- صانِعِي سلام: "طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللَّهِ يُدْعَوْنَ" (متّى 5: 9). كم يكون المؤمن سعيداً حين يكون مصدرَ سلامٍ للآخَرين؟ المؤمن الحقيقي الذي يتمتّع بسلام الله عليه أن يعكس هذا السّلام في محيطه ودائرة وجوده ومع كلّ من يتواصل معهم. وهذا يترك في قلب المؤمن عزاءً وفرحاً ويرفع من قيمة سلامه مع الله.
3- مواجهة التّحدِّيات والشّرّ: عندما يواجه المؤمن بالمسيح التّحديّات المختلفة التي قد تحيط به بإيمان، فهي وبالرّغم من صعوبتها ستجعله يشعر بالسّلام حين يلمس ويشعر بقوّة الله تسانده وتدعمه. في كتاب أعمال الرّسل يخبرنا الوحي عن المؤمنين الذين جالوا مُشتَّتين ومرفوضين، لكنّهم مسرورون وسلامهم ظاهر في ثباتهم بالمسيح وخدمتهم التّبشيريّة بالإنجيل. قال الرّبّ يسوع: "قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهَذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ وَلَكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ" (يوحنّا 16: 33). أمّا في رسالة رومية فالوصيّة تقول: "لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ (رومية 12: 21).
4-التّشبُّه بالمسيح: التشبه بالمسيح يتجلى في خدمة الآخَرين بمحبّة وتواضع: دعا الرّبّ يسوع مؤمنيه أن يخدموا ويُحبّوا بعضهم البعض قائلاً: "وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً. كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضاً بَعْضُكُمْ بَعْضاً. بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ" (يوحنّا 13: 4 و35). مكتوب أيضاً: "فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضاً" (غلاطية 5: 13). "وَأَمَّا الْمَحَبَّةُ الأَخَوِيَّةُ فَلاَ حَاجَةَ لَكُمْ أَنْ أَكْتُبَ إِلَيْكُمْ عَنْهَا، لأَنَّكُمْ أَنْفُسَكُمْ مُتَعَلِّمُونَ مِنَ اللهِ أَنْ يُحِبَّ بَعْضُكُمْ بَعْضاً" (1 تسالونيكي 4: 9). "فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا. ِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْمَحَبَّةِ. مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ" (أفسس 4: 1-3). وأكثر من ذلك فقد أوصى الرّبّ يسوع تلاميذه (وجميع المؤمنين به) بمحبّة وخدمة حتّى من يُعادِيهم، فقال لهم: "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (متّى 5: 44). وأوصى الله بِفَمِ بولس الرّسول قائلاً: "فَإِنْ جَاعَ عَدُوُّكَ فَأَطْعِمْهُ. وَإِنْ عَطِشَ فَاسْقِهِ. لأَنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ هَذَا تَجْمَعْ جَمْرَ نَارٍ عَلَى رَأْسِهِ. لاَ يَغْلِبَنَّكَ الشَّرُّ بَلِ اغْلِبِ الشَّرَّ بِالْخَيْرِ" (رومية 12: 20 و21).
يفقد المؤمن السّلام مع الله إن لم يُحِبّ بصدق ويخدم باختيار وليس عن اضطرار، فالمحبّة والسّلام توأَمان ووَجهان لعُملة سماويّة واحدة.
5- تمجيد الله: كلّ ما سبق ذكره أعلاه يجب أن يؤول لمجد الله وحده، يعمله المؤمن تعبيراً عن ولائه وإخلاصه وطاعته لله. والله يُكرِم طائِعِيه ويَكنُز لهم أكاليل مجد أبديّة، وسلامهم يتبعهم في حياة الخلود.
*صديقي القارئ، إن كنت تبحث عن السّلام فهذا هو السّلام الحقيقي الذي ينبغي على كلّ إنسان أن يَجِدَّ لنَوالِه، إنّه السّلام من الله ومع الله، إنّه بمتناولك والله يَعرضه عليك لتحيا فيه وتتمتّع به في هذه الدّنيا وفي الحياة الأبديّة. قال الرّبّ يسوع: "سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ. سلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا" (يوحنّا 14: 27).
سلام الله سيسود حياتك بقرار منك. قرار هام لا يحتاج منك إلاّ إقرارك بحاجتك لهذا السّلام الذي لا يفنى ولا يزول. لا تتردّد بطلب سلام الله من الله