هنا في القبر الفارغ، قبري، أتذكّر.. وقد بدأت أفهم كلّ شيء..
ثلاثة أيام ونحن مع جموع غفيرة نتبع يسوع، ونسمع منه كلمة الله، ونعاين أعماله، حتى تضوّرنا من الجوع.
قال أحد أتباعه: "يا معلم اصرف الجموع حتى نتمكّن من الراحة ونأكل".
فردّ يسوع: "طعامي أنا أن أعمل مشيئة من أرسلني، أما الجموع فأعطوها أنتم ما تأكل".
ضحكنا جميعنا منه في قلوبنا فكيف يمكن أن تُطعم أعداداً غفيرة مثل تلك الجموع التي تجمهرت لسماع كلامه.
قال يسوع: "أنا خبز الحياة، من يأتني لا يجع أبداً.. هوذا الخبز النازل من السماء، من يأكل منه يعاين مجد الله"..
وبينما يعظ، تذكّر نيقوديمس صديقي الخمسة الأرغفة من خبز الشعير والسمكتين التي كانت عند ابن سمعان الكيريني عشاءً لأبيه وأمّه وأخوته. وكان برسمعان الصغير يتبعنا وقد شرد عن الذهاب انجذاباً بكلام يسوع وشخصيّته، فهمس نيقوديمس في أذني: "هذه تكفي يسوع لكي يُتابع إلقاءه كلمة الله، يجب أن يأكل لأنه قد تعب جداً من إلقاء الكلمة".
أتينا إلى الطفل الفقير ومعنا أحد أتباع يسوع:
- هل تعطينا ما عندك لنقدّمه ليسوع؟
- ولكن ما عندي قليل، ولا يليق بيسوع طعام الفقراء!.. يمكنني أن أذهب إلى البيت وأحضر لكم وليمة فاخرة.
قال ذلك وكأنه ابن رئيس كهنة أو ابن أحد الأغنياء. لقد نسي أنه ابن فلاح كادح يتعب طوال اليوم ويشقى من أجل الحصول على لقمة عيش شريفة.
جاء يسوع إلينا. لم يسمع حديثنا فقط بل أنصت أيضاً إلى همسات قلوبنا. قال للطفل:
- أنا محتاج للقليل الذي عندك!..
- خذ يا معلم..
أعطاه الصغير بسخاء الخمس خبزات والسمكتين، وفرح بعطائه جداً، فالعطاء أكثر غبطة من الأخذ.
ليتنا نتعلم العطاء من الصغار..
ومن الفقراء أيضاً..
طلب يسوع من تلاميذه أن يُقعدوا الجموع، وكانوا ألوفاً من الرجال والنساء والأولاد. وكان عشب، فقعدنا صفوفاً صفوفاً.
أخذ يسوع الخبز والسمك شكر وبارك وقدّس وكسر، وأعطى تلاميذه، وهم أخذوا يوّزعون علينا الخبز والسمك. فأكلنا بقدر ما أردنا، وشبعنا، وبقي من الخبزات الخمس والسمكتين ما يُشبع جحفلاً. وأعطينا ابن سمعان الكريني سلّة خبز وسمك وأرسلناها إلى عائلته، ومجّدنا الله على يسوع.
أردنا في تلك اللحظة أن نرفع يسوع ملكاً علينا، وينتهي تعب عرق الجبين، وينتهي الظلم والألم، وربما الموت أيضاً ينتهي، فمن يكثّر الخبز والسمك ويُشبع الآلاف بفيض يستطيع أن يفعل كلّ شيء.
طلبناه، فلم نجده..
غاب عنا..
اختفى
تخفّى
قيل لنا أنه صعد الجبل يصلّي، لإنه لا يحبّ أن يتلقى المجد والملكوت إلا من الله..
وهكذا بقي كعادته مختفياً متخفياً عدّة أيّام..
لعلّ التخفّي هو سرّ القليل الذي يكثُر فيفيض!..
كالخبز والخمر
كمياه الينابيع
كالذهب واللآلئ الثمينة
كالمعاني العميقة في قلب الكلمة
كالصمت في تعطّل اللغات
كالحبّ النقي في سموّ الحاجات
كالألم المهراق من أجل القيَم
كالحقيقة المصلوبة عند المضطهدين
كفقراء الروح
كالمتمرّدين من أجل الحق
كجياع العدل
كعطاش المعرفة
كشفّافي الصدق
كالمتكسّرين الغافرين
كالنسّاك والمتصوّفين
كالأزواج المتعففين والآباء والأمهات المجانيين
كفرح الخلق بعد مخاض الطلق
كالودعاء وأنقياء القلوب
كحزانى الظلم
كتواضع المبدعين العظماء
كصفاء السماء خلف الغيوم السوداء.
التخفّي هو سرّ القليل الذي يكثُر فيفيض.